تقرير إخباري إعداد أحمد بدور
مصادر ميدانية: تركيا استهدفت أكثر من 80 هدفاً مدنيا، على امتداد الشمال السوري
أثبت تطور الأحداث بعد الانتخابات الرئاسية التركية في شهر أيار الماضي صحة توقعات أغلبية المراقبين السياسيين بأن الحاح تركيا على المصالحة مع سورية قبيل تلك الانتخابات لم يكن سوى لعبة مكشوفة لفوز أردوغان بها وقد تم له ذلك فغاب بصورة شبه كلّية، الحديث عن تطوّر مسار العلاقات بين تركيا وسورية، بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التركية. وبدا، كما لو أن «فقاعة» الرغبة في المصالحة التي أَطلقها الجانب التركي منذ سنة ونصف السنة، لم تكن تنظر إلى أبعد من أنف تلك الانتخابات، حتى إذا فاز رجب طيب إردوغان بالرئاسة من جديد، دخلت تلك الرغبة مجدّداً في غياهب النسيان.
وبعد تلك الانتخابات عادت المواقف التركية المتمحورة حول المسألة نفسها، تتوالى على لسان أكثر من مسؤول رفيع المستوى، لكن في منحى يؤكد استمرار نظام أردوغان في معاداة سورية والتدخل في شؤونها الداخلية ويمكن الإشارة إلى موقفَين في هذا الإطار: الأول، لوزير الدفاع، ياشار غولر، الذي قال، في ندوة صحافية في الـ17 من كانون الأول الماضي، إن «تركيا تواصل نشاطها في تقديم المساعدات الإنسانية وإقامة بنى تحتية من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها في سورية. وهدفنا الوصول إلى حلّ سياسي على أساس قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254 (لعام 2015)»، مذكّراً مرّة أخرى بأن بلاده «تدعم وحدة الأراضي السورية، وتعمل على التنسيق والحوار والتواصل في اتّجاه ضمان سلام بنّاء في المنطقة». وعدّد غولر ما يمكن اعتباره شروطاً مسبقة قبل المبادرة إلى التطبيع مع سورية، وهي: «اعتماد دستور شامل؛ إجراء انتخابات حرّة؛ وضمان الأمن الحدودي».
أمّا الموقف الثاني البارز، فجاء على لسان وزير الخارجية، حاقان فيدان، في جلسة تقييمية للعام الماضي مع الصحافيين، يوم الثالث من الشهر الجاري. ووفقاً للوزير فإنّ «الأولوية الآن، هي عدم نشوء أيّ نزاع بين النظام والمعارضة. الصورة هي كما رسمناها في إطار اتفاق أستانا، والحفاظ عليها مهمّ». وعن سبب أهمية ذلك، قال: «أولاً، كي لا تحدث موجات هجرة جديدة؛ وثانياً، إن الهدوء يجعل الناس تنسى الكراهية وتتّجه نحو السلام والتفاعل، وهذا مهمّ؛ وثالثاً، إن أيّ صدام عسكري يوفّر مساحة جديدة لنشوء التنظيمات الإرهابية. لذا، فإن عدم حدوث صدامات يعطي فرصة للجهود الديبلوماسية».
هذان الموقفان اللذان جاءا في أقلّ من 20 يوماً، يلقيان الضوء على حقيقة الموقف التركي من تطوّرات الأزمة السورية. فإضافةً إلى الكيان الصهيوني الذي يحتلّ هضبة الجولان، والولايات المتحدة التي تحتلّ أراضي سورية في شرق الفرات منذ أكثر من عشر سنوات، فإن تركيا هي البلد الثالث المعني مباشرةً بالوضع في سورية. فبين البلدَين حدود برية تقرب مساحتها من الـ911 كيلومتراً. إضافة إلى مسألة لواء الإسكندرون الذي ضمّته تركيا إليها بالاتفاق مع فرنسا منذ 85 عاماً، ولم تعترف سورية بضمّه لا في حينه ولا بعدما نالت البلاد «استقلالها التام» عام 1946، فإن تركيا تحوّلت إلى أكبر طرف في «المسألة السورية» بعد نشوء الأزمة فيها في عام 2011؛ إذ دعمت علناً الإرهابيين، وانتقلت بين عامَي 2016 و2019 بنفسها إلى احتلال أجزاء واسعة من الشمال الغربي، وبعضاً من الشمال الشرقي للفرات، حيث لا تزال قواتها موجودة.
وفي آب 2022، أعلنت تركيا، على لسان وزير خارجيتها، مولود تشاووش أوغلو، أنها مستعدّة لمصالحة مع سورية للوصول إلى حلّ للأزمة، في ما اعتُبر تحوّلاً في نظرة أنقرة إلى الوضع عند جارتها. وتلت ذلك تصريحات من جانب إردوغان، وصولاً إلى عقد أكثر من اجتماع، بدءاً من نهاية ذلك العام، وحتى منتصف أيار 2023، عندما جرت الانتخابات التركية التي فاز فيها إردوغان بولاية ثالثة. ومن بعدها، اختفت محاولات المصالحة، ولم يَعُد يَسمع بها أحد، لأن إدعاء الرغبة فيها كان مرتبطا بنتائج الانتخابات، حتى إذا كان الفوز حليف إردوغان، اعتَبرت أنقرة الموضوع منتهياً.
وهكذا يتضح أنه في سياق العلاقات المباشرة، والتي تعني تركيا وسورية خارج تأثيرات الأطراف الأخرى، تأتي مواقف أنقرة الأخيرة لتسدّ الكوّة التي انفتحت في جدار الانسداد في العلاقات بين البلدَين. ويتّضح من مطالبة غولر بدستور وانتخابات، أن الأتراك يضعون شروطاً تعجيزية لا يمكن تحقيقها. أما تصريحات وزير الخارجية، وخصوصاً في ظلّ دخول عامل العدوان على غزة وانشغال جميع اللاعبين فيه، فهي لا تدلّ على أن في نيّة تركيا فتح صفحة جديدة مع سورية، بل هي تعكس ارتياحاً لاستمرار «الستاتيكو» القائم. ولا يمكن على أيّ حال، وضع كلام فيدان عن «الهدوء والتفاعل ونسيان الكراهية»، إلّا في إطار «الشعرية» التي تقفز عن كل الوقائع المرّة المتعلّقة بدعم التنظيمات الإرهابية والأطماع التاريخية وتكامل الأدوار مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. والمحصّلة، أن الاحتلال مستمرّ وعدّاده يسجّل السنوات، والطريق إلى المصالحة، مسدود مسدود.