نشرت صحيفة الأخبار اللبنانية الصادرة اليوم مقابلة مع نائب مدير «المرصد الفرنسي – الروسي» في موسكو، والخبير في الإستراتيجية الروسية في البحرَين الأسود والمتوسّط والشرق الأوسط، إيغور دولانوي جاء فيها:
هناك تناقض عميق بين الولايات المتحدة وروسيا حيال كيفيّة إيصال المساعدات الإنسانية إلى سورية، وتحديداً إلى منطقة إدلب في شمال البلاد، حيث تطالب واشنطن بأن يتمّ ذلك «عبر الحدود»، وليس «عبر الخطوط»، كما تريد موسكو. ما هي خلفيات التناقض بين هاتين المقاربتين؟
– ينسجم موقف روسيا مع المنطق العام الذي حَكم تدخّلها في هذا البلد، وهو الدفاع عن سيادته. بالنسبة إلى الروس، فإنّ المساعدات الإنسانية يجب أن تُقدَّم لدمشق، لا أن تَعبُر من خلال أراضٍ خارجة عن سيطرة الدولة المركزية. أنا أعرف أنّ المنظّمات غير الحكومية وتلك الدولية العاملة في مجال المساعدات الإنسانية، كـ«الصليب الأحمر» مثلاً، اختارت أن تلتزم باحترام السيادة السورية. هم يحصلون على تصاريح من السلطات السورية قبل المباشرة بأنشطتهم. لقد تحادثْت مع بعضهم هنا في موسكو، وهم يعترفون بتعاون هذه السلطات معهم، وموافقتها على قيامهم بدورهم حتى في المناطق التي لا تخضع لسيطرتها، كما هو الحال في الشمال الشرقي للبلاد مثلاً. إدلب تُمثّل إشكالية أكثر تعقيداً، لأنها ملاذ آمن للجهاديين، ولأننا نشهد مسعى لإعادة الاعتبار إلى «هيئة تحرير الشام» وتصويرها على أنها قوّة معتدلة، وهو ما تعارضه دمشق وموسكو. الأميركيون ما زالوا ينظرون إلى السلطة السورية على أنها غير شرعية، بينما تعمل روسيا على تكريس شرعيتها لدى المجتمع الدولي بشكل عام، خاصةً لدى الدول العربية.
س: يريد الروس تخفيضاً للتوتّرات في ساحات وجودهم، كسورية وليبيا، لكنهم ليسوا مستعدّين للمغادرة
ما هو تحليلكم للتباين بين الولايات المتحدة وروسيا حول سورية منذ وصول إدارة جو بايدن إلى موقع القرار؟ وهل لدى هذه الأخيرة إستراتيجية تجاه هذا البلد يعكسها موقفها من قضية المساعدات الإنسانية؟
– أعتقد أنّ هناك بداية استمرارية لسياسة دونالد ترامب التي لم تضع سوريا على جدول أولويات الإدارة. الظروف لم تتغيّر، وهناك تراجع في الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، وتركيز على الأولويات الإستراتيجية المتّصلة بالعلاقات مع الصين. قد يتغيّر هذا الأمر في السنوات القادمة إذا قرّر الصينيون التموضع في سوريا عبر استثمارات وازنة فيها. قد نرى عندها حراكاً أميركياً أكثر حيوية يُترجَم على الأغلب عبر المزيد من العقوبات والضغوط السياسية والعسكرية، لكن هذا السيناريو غير واقعيّ حتى اللحظة. هناك أيضاً بداية تحوّل أميركي مقارنةً بتوجّهات الإدارة السابقة التي حاولت استخدام سوريا في سياق ضغوطها القصوى ضدّ إيران. التدخّل الأميركي في سوريا لم يهدف إلى إسقاط نظام بشار الأسد، بل إلى الإضرار أساساً بالإيرانيين. مع بايدن، هناك سياسة تفاوض مع طهران، لكن علينا مراقبة مسار تطوّرها. هناك قراءتان راهناً لهذه التوجّهات المستجدّة: الأولى تفترض أن الأميركيين سيراجعون إلى حدّ ما مقاربتهم للوضع في سوريا، ما سيقود إلى تخفيف الضغوط وتغليب منطق الحوار. أمّا الثانية، فتعتبر أنهم سيتبنّون مقاربة معاكسة، عبر تشديد الضغوط لحمل إيران على تقديم تنازلات بالإكراه. ليس هناك بُعد سوري – سوري في السياسة الأميركية، بل مجرّد توظيف للصراعات الداخلية لتحقيق أغراض مرتبطة بالتجاذب مع إيران، غير أن هذا التوظيف، على المستوى الشكلي، سيكون أقلّ حدّية من ذلك الذي سبقه.
س: يبدو أن هناك استمرارية لسياسة دونالد ترامب التي لم تضع سوريا على جدول أولويات الإدارة
ما هو برأيكم مستقبل الإستراتيجية الروسية في سورية؟
– في الواقع، يردّنا هذا السؤال إلى سؤال آخر: إلى أيّ درجة سيقبل الروس تقديم تنازلات عن المكاسب التي حقّقوها في سوريا والمنطقة، في مقابل تنازلات أميركية في أوكرانيا أو حيال ملفّات أخرى تمسّهم مباشرة؟ أنا شخصياً غير مقتنع بأنّ الروس عازمون على الدخول في مقايضات في الشرق الأوسط. هم رسّخوا وجودهم في سوريا، وبقدر أقلّ في ليبيا، وشرعوا بمدّ نفوذهم نحو السودان. المنطقة التي قد تشهد مقايضات من هذا النوع هي على أغلب الظنّ أفريقيا جنوب الصحراء. في الشرق الأوسط، ومع الوقت، بات لدورهم وتأثيرهم منطق خاص يُخرجهم من ديناميات التجاذب مع الولايات المتحدة وأوروبا. هم يريدون تخفيضاً للتوتّرات في ساحات وجودهم، كسوريا وليبيا، لكنهم ليسوا مستعدّين للمغادرة في مقابل احتمال ــــ ضعيف جدّاً إن لم يكن مستحيلاً ــــ انتزاع اعتراف بسيادتهم على القرم. مفهوم الأمن القومي يحكم سياستهم في سوريا ومصالحهم فيها، المرتكزة جوهرياً إلى قواعدهم في حميميم وطرطوس. طالما أن بشار الأسد يضمن لهم الحفاظ عليها، سيتعاونون بأفضل السبل معه. إذا ضَمِن لهم نظام آخر هذه المصالح، لن يكون لديهم مشكلة معه. لكن هذه المصالح الأمنية غير قابلة للتفاوض. في ليبيا، الوجود الروسي متّصل بالمجابهة مع «الناتو»، لكن هناك أيضاً أبعاد مرتبطة بالعلاقات مع تركيا وبالمجال الأفريقي الذي تُمثّل ليبيا معبراً إليه. غير أن أهمّية هذا الوجود قد تتضاءل وفقاً لأولويات أجندتهم. من الواضح أن الروس اليوم أصبحوا غير مقتنعين بإمكانية التوصّل إلى تفاهم شامل على نطاق عالمي مع الأميركيين. هم في صدد ضبط المواجهة الإستراتيجية معهم في إطار محدّد المعالم، لأنها مرشّحة للاستمرار. التحدّي بالنسبة إلى الروس هو الحدّ من كلفتها. الاستقرار الاستراتيجي سيكون من بين الملفّات التي ستسهم في صياغة علاقاتهم الثنائية مع الأميركيين. الملفّ الإيراني قد يكون أحد المداخل في الشرق الأوسط إلى مثل هذه العملية، لأن احتمال تقاطع مصالح الطرفين حياله وارد في المستقبل. من الممكن أيضاً حصول تقاطعات حول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لأن بايدن لا يعتمد سياسة أحادية كتلك التي اتّبعها ترامب تجاه هذا الملفّ، على الرغم من عدم استعداده للتراجع عن ما يراه إنجازات حَقّقها سلفه.