ثمّة ثلاثة محرّكات أساسية للتظاهرات (أ ف ب)
يرى المراقبون السياسيون أن التظاهرات التي عمّت شوارع فلسطين المحتلة أخيراً، ليست وليدة اللحظة؛ فهي، ورغم اشتدادها في الأيام الماضية، ما فتئت تتدحرج منذ نهاية العام الماضي، حينما بدأت تتزايد المؤشرات إلى احتمال تقاطع الحراك المطلبي الإنساني المنادي بصفقة تبادل فورية بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، مع الحراك السياسي المطالب برحيل حكومة بنيامين نتنياهو، وتحديد موعد مبكر لإجراء انتخابات «الكنيست».
ويتزامن توسّع رقعة الاحتجاجات، مع ثبوت سلسلة من الحقائق، في مقدّمتها سلوك الحكومة خلال الحرب، وخصوصاً على مستوى إدارة ملفّ صفقة التبادل التي بات واضحاً أن من مصلحة نتنياهو تأخير الاتفاق عليها قدر الإمكان، وهو ما يفسّر التعنّت في رفض عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة. وأما المحرّك الثاني للتظاهرات، فهو أزمة قانون التجنيد، التي أثبت نتنياهو خلالها أنه يحاول التوصّل إلى صيغة تعفي «الحريديين» عمليّاً من الخدمة العسكرية، فيما يطالب الجيش بتجنيد 20 ألف جندي جديد لمواجهة التحديات الأمنية المتفاقمة، وخصوصاً على الجبهة الشمالية، بعد سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى في صفوفه جرّاء الحرب المستمرة على غزة، وبروز مطالبات واسعة بـ«المساواة في الأعباء». والمحرّك الثالث، هو قرار حركات الاحتجاج التي قادت تظاهرات العام الماضي ضدّ مخطّط «الانقلاب القضائي»، العودة إلى الشارع، في ما قد لا يكون منفصلاً عن «تفاقم الخلافات» بين نتنياهو والإدارة الأميركية، على اعتبار أن الأخيرة ربما تكون متّهمة بتوسيع التظاهرات كجزء من «الضغوط» التي تمارسها على رئيس حكومة الاحتلال.والعناوين التي تقدَّم ذكرها، كانت ظاهرة بوضوح في التحركات التي شهدتها القدس وتل أبيب وحيفا وقيساريا وغيرها من المدن في الأيام الماضية، والتي تخلّل بعضها إغلاقٌ للشوارع والطرق الرئيسية، ومواجهات بين الشرطة والمحتجّين.
وفي هذا الإطار، رأى المحلّل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، أنه في أثناء التظاهرة التي بدأت في القدس منذ مساء السبت، ونصب المشاركون فيها خياماً للمبيت كمؤشّر إلى استمرارهم في الاحتجاج، أطلِقت عمليّاً «صافرة البداية لفصل جديد من الاحتجاجات على سلسلة من إخفاقات الحكومة قبل السابع من أكتوبر، وخلاله، وبعده». ورغم أن المتحدّثين على منصة الاحتجاج لم يذكروا الحرب بصراحة، اعتبر برنياع أن «مدة ضبط النفس بسبب الحرب قد انتهت. والتصريحات ضدّ نتنياهو كانت صارخة ومتشدّدة جداً». ومع ذلك، فإن المحتجّين في الشارع هم أنفسهم الذين كانوا يحتجّون في العام الماضي ضدّ الحكومة ذاتها، ما يعني أن «الاعتقاد بأن إخفاق السابع من أكتوبر والأداء الفوضوي للحكومة منذئذ سيفضيان إلى نمو أجنحة جديدة للاحتجاجات، تكون أوسع وأكثر حيوية، لم يتحقّق بعد»، خصوصاً وأن «جنود الاحتياط الذين تسرّحوا لم يخرجوا من غزة مع غضبهم ولا مع مطالبهم ولا مع لافتاتهم. ولم يقودوا الاحتجاجات». وفي دليل على ذلك، صرخ أحد جنود الاحتياط أمام متظاهرين وصلوا إلى مكاتب الحاخامية الرئيسية في القدس، للاحتجاج ضدّ الحاخام الرئيسي لإسرائيل، يتسحاق يوسف، وضدّ قرار منحه «جائزة إسرائيل»، بالقول: «أنتم تتسبّبون في إضعافنا في غزة».
«إعادة الأسرى هي مسألة وجودية، ومن دونها سيتفكّك المجتمع الإسرائيلي»
لكن «إعادة الأسرى هي مسألة وجودية، ومن دونها سيتفكّك المجتمع الإسرائيلي»، وفقاً لما تعتقده عائلات الأسرى، وأيضاً قسم كبير من المتظاهرين. ونقل برنياع عن بعض هؤلاء أن «المحتجزين هم ادّعاء آخر ضدّ نتنياهو، مثل تهرّب الحريديم من التجنيد، ومثل عطلة الكنيست (رغم الحرب)، ومثل التيار الخلاصي الذي يقوده سموتريتش، وشرطة بن غفير، ومثل أقوال سارة نتنياهو وسلوك ابنها يائير». وخلص إلى أن «النضال المتواصل ضدّ الحكومة عزّز كثيراً من شكوك المحتجّين تجاه السياسيين في السلطة، وتجاه أيّ سياسي عموماً. ولذلك، عندما سمعوا أن نتنياهو سيخضع لعملية فتاق جراحية، رفضوا التصديق؛ إذ قال بعضهم إن هذه مجرّد خدعة. وقد اختلق هذا العلاج من أجل إسكاتنا. وهذا ليس فتاقاً. إنه مصاب بمرض آخر وأسوأ بكثير. جميعهم يكذبون».
بدوره، رأى المحلّل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن التظاهرات التي عمّت المدن الإسرائيلية، هي بمنزلة تعبير عن «تصعيد متأخّر» في النضال الذي تقوده عائلات الأسرى، تقاطع عملياً مع تحرّك منظّمات الاحتجاج التي «تناضل من أجل إسقاط الحكومة وإحباط التشريع المخطّط لإعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية». وأشار إلى أن الركود الذي ساد المفاوضات غير المباشرة بين دولة الاحتلال و«حماس»، دفع قسماً كبيراً من عائلات المحتجزين إلى التسليم بفرضية أن مفتاح تحريك عجلة المباحثات، يتمثّل في زيادة الضغط على الحكومة عبر تصعيد الاحتجاج في الشارع. وبناء على ذلك، اعتبر أن «الجولات المقبلة من المحادثات ستجري في ظلّ التظاهرات، التي ستشكّل تحدّياً لنتنياهو لأول مرّة منذ اندلاع الحرب».
ورأى هرئيل أنه «كلّما تقدّم الوقت، تتعزّز الشبهات بأن نتنياهو، وأكثر من سعيه إلى تحقيق انتصار مطلق – لا يلوح أبداً في الأفق – يتّجه نحو حرب أبدية، كتلك التي تطول وتتمدّد، من دون بدء حساب قومي للذات حول سؤال: لماذا علقنا فيها؟»، مشيراً إلى حقيقة مقتل العشرات من الأسرى لدى «حماس» بسبب عدم التوصّل إلى صفقة في شأنهم، وهو ما يبدو أنه السبب في تغيير موقف قادة أجهزة الأمن الصهيونية، وأعضاء في «كابينيت الحرب» وفي «الكابينيت» السياسي – الأمني (الموسع)، وبينهم قسم من وزراء حزب «الليكود» الذي يتزعّمه نتنياهو؛ حيث «يتعالى الادّعاء بأن الكرة (في المفاوضات) انتقلت إلى الملعب الصهيوني، وبأن تعنّت نتنياهو هو السبب الأساسي لتأخير التوصّل إلى اتفاق». ولفت هرئيل إلى أنه بسبب الضغوط المتصاعدة على رئيس الحكومة، اضطرّ الأخير إلى إبقاء فريق مقلّص لمتابعة المفاوضات في قطر، وسمح بإرسال وفد آخر إلى مصر. وإذ كان من المفترض أن يعود هذا الأخير إلى تل أبيب، تقرّر إبقاؤه في القاهرة (قبل أن يعود أمس)، وهو ما فسّره مسؤولون سياسيون إسرائيليون كإشارة إلى احتمال التقدّم في المفاوضات.