تحليل إخباري إعداد أحمد بدور
«غلاف غزة» أصبح مختبراً لصواريخ المقاومة منذ بدء «الانتفاضة الثانية»
بدأت آثار الكلفة الاقتصادية الباهظة التي يتكبدها الاقتصاد الصهيوني بسبب العدوان على غزة بالظهوروخاصة في قطاع السياحة.
فمع بدء «طوفان الأقصى»، في السابع من تشرين أول الماضي، نزح قرابة 70 ألف مستوطن صهيوني، معظمهم من يهود الدرجة الثانية (اليهود الشرقيّون)، كانوا يستوطنون في مستوطنات تحيط بقطاع غزة، في مسعى صهيوني مستمر لقطع الاتصال الجغرافي بين القطاع والضفة الغربية، منعا لإقامة دولة فلسطينية موحدة جغرافيا فيهما، وذلك بعدما أصبحت هذه المنطقة بيد المقاومة لساعات، وشهدت نقاط التحام ساخنة.
وفي تصريح للجيش الصهيوني، منتصف تشرين الأول الماضي، ورد أن عدد النازحين وصل إلى نحو نصف مليون مستوطن، في حين ما زالت دعوات حثّ السكان على الانتقال إلى أماكن أخرى، مستمرّة، بما فيها مستوطنة كريات شمونة التي يسكنها 20 ألف مستوطن. ومع دخول «حزب الله» الحرب على الجبهة اللبنانية، في الثامن من تشرين الأول، أخلى الاحتلال 43 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلّة، حيث لم يبقَ سوى الجنود العسكريين، بحسب ما ذكره أمين عام الحزب، السيد حسن نصر الله، في خطابه.
قطاع السياحة وأزمة لم تكن في الحسبان
ألقى الحدث الذي وُصف بأنه «الأكثر دموية في التاريخ الإسرائيلي»، بآثاره على مختلف الصعد، الاقتصادية والعمّالية والسياسية، ولكنّ القطاع السياحي تكبّد الخسائر الأكبر. فبحسب وزارة السياحة الصهيونية، يعيش حوالى 88 ألف شخص، حالياً، في فنادق مدن العطلات: عين بوكيك وإيلات وتيبيريوس، مع استضافة 87 ألفاً في الكيبوتسات، أو في المناطق السكنية في القدس وتل أبيب ونتانيا، فيما يقيم 73 ألفاً – معظمهم ممَّن اختاروا الإخلاء بأنفسهم – مع أقاربهم وأصدقائهم أو في أماكن إقامة مؤقتة.
ويلزم «قانون الدفاع المدني» الصهيوني لسنة 1951، ببناء ملاجئ في جميع المنازل والمباني السكنية والصناعية، إذ يُتاح استخدامها في حالات الطوارئ، وأثناء تحذير مدّته 15 ثانية فقط قبل وصول الصاروخ. لكن بعدما فشلت «القبة الحديدية» في اكتشاف الصواريخ واعتراضها، لم تَعُد الملاجئ التي بناها الكيان لاستيعاب هذه الأزمة، أو لتقديم حلّ مستدام، بسبب كثافة التهديدات الصاروخية، مجدية. ففي سديروت وحدها، أَنفقت الحكومة 150 مليون دولار على بناء الملاجئ في محطّات الحافلات وساحات الملاعب وأقبية المتاجر، وتزويد المنازل القديمة بغرفة إضافية مضادة للانفجار. لكن اليوم، لا تنتفع إسرائيل من مدن الملاجئ التي شيّدتها؛ إذ تقدّم «الهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ» في وزارة الدفاع الخدمات للنازحين الذين أُمروا بإخلاء مستوطناتهم الواقعة في مناطق أصبحت عسكرية بالكامل أو محظورة، وذلك في دور الضيافة التي تدعمها الحكومة ماليّاً. وإذا لم يَسمح الجيش لهؤلاء النازحين بالعودة، فستكون الحكومة مسؤولة عنهم.
ويبلغ عدد غرف الفنادق التي تلبّي معايير استضافة الأشخاص والعائلات النازحة بسبب الحرب، نحو 56 ألف غرفة شهدت حالةً من الفوضى مع قيام بعض المستوطنين بالإخلاء من دون أوامر. وفي هذا الإطار، أفادت «جمعية الفنادق» الصهيونية بأن المعروض من الغرف المتاحة ينفد مع تصاعُد مطالب أصحاب الفنادق بتسديد دفعاتهم أيضاً، علماً أنّ الكلفة اليومية التي تتحمّلها الحكومة الصهيونية للإنفاق على نازحي «غلاف غزة» تقدَّر بـ9 ملايين شيكل، أي 270 مليون شيكل شهرياً، أو ما يعادل 70 مليون دولار. ويستضيف فندق «دافيد»، أحد أكبر الفنادق السياحية على البحر الميت، نحو 900 مستوطن من كيبوتس بئيري الواقع على بعد ثلاثة أميال من غزة، والذي وصل إليه مقاتلو المقاومة في عمليتهم.
في المقابل، رفض مليونير صهيوني يملك أكبر فندقَين في القدس، استقبال نازحين بسبب ما قال إنه «الوضع الأمني، وقلّة العدد اللازم من الموظّفين لتشغيل الفنادق»، كما رفض مساعدة وزارة السياحة في توظيف المتطوّعين بعد استدعاء احتياطي الجيش. وتعزو الصحف الإسرائيلية موقفه هذا، إلى أنه سيتعيّن عليه استضافتهم مجاناً أو منحهم سعراً حكوميّاً مخفّضاً، كما فعلت الفنادق الراقية الأخرى. ولكن الأمر لا يتوقّف على نفقات الإقامة في ذاتها، لأن امتلاء الفنادق على خلفية دعوات الإجلاء، يعني تعطُّل قطاع السياحة.
وليس ذلك فحسب، إذ حثّت وزارات الخارجية في معظم الدول، المسافرين على إعادة النظر في السفر إلى فلسطين المحتلة والضفة الغربية، بسبب «الاضطرابات الأمنية». وفيما لا يزال مطار «بن غوريون» في تل أبيب مفتوحاً، قامت عدّة شركات طيران بوقف رحلاتها إليه، باستثناء رحلات جلب جنود الاحتياط المدعوّين للخدمة. أيضاً، أُغلقت المواقع الأثرية، والمتنزهات، والمحميات الطبيعية، فيما أُلغيت خطوط الرحلات البحرية في الموانئ.
وتجدر الإشارة إلى أنه أُعيد فتح فلسطين المحتلة أمام السيّاح، بعد جائحة «كورونا»، فقط في كانون الثاني عام 2022. وفي ذلك العام، سجّلت إسرائيل 2.675 مليون سائح – أي أقلّ بحوالى 41% من 4.55 ملايين زائر في عام 2019، وهو عام قياسي. كما شكّلت السياحة في العام نفسه 2.6% من إجمالي الربح المحلّي للكيان، و3.8% من العمالة، وفقاً لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية». وبحسب «مكتب الإحصاء المركزي»، فإن حوالى 99 ألف زائر، معظمهم سيّاح، جاؤوا إلى فلسطين المحتلة في تشرين الأول الماضي (2023)، في مقابل 369 ألفاً في المدّة نفسها من عام 2022، و485 ألفاً في تشرين أول 2019، قبل الوباء. وحوالى 72.2% من الذين جاؤوا في تشرين الأول، وصلوا لحضور مهرجان «نوفا» الموسيقي، في الأسبوع الأول من الشهر، والذي شهد عملية «طوفان الأقصى».
هل النزوح خارج إسرائيل ممكن؟
تقدّم الحكومة الصهيونية كل ما يلزم من وسائل استجمام لمستوطنيها على أمل استجداء بقائهم، في حين لا يوجد شبرٌ آمن في غزة، حيث يلجأ أكثر من مليون فلسطيني نازح إلى ساحات المستشفى ومدارس «الأونروا» التي لم تَسلَم هي الأخرى من القصف الصاروخي. ويقول رئيس «الهيئة الإسرائيلية لإدارة الطوارئ»، إن عودة النازحين إلى مجتمعاتهم ستستغرق وقتاً طويلاً، فيما السيناريو الأسوأ هو أن يعود هؤلاء المستوطنون إلى البلدان التي جاؤوا منها. ففي عام 2022، ارتفع عدد طلبات الإسرائيليين للحصول على جنسيات أجنبية بنسبة 20%، وارتفعت طلبات اليهود للهجرة من فلسطين المحتلة إلى دول الاتّحاد الأوروبي بنسبة 15%. وفي النصف الأول من عام 2023، انخفضت الهجرة إلى فلسطين بشكل حادّ بنحو 20% من أميركا وأوروبا، رغم حرص الاحتلال على استقطاب يهود روسيا وأوكرانيا. وتشير التحليلات السياسية إلى أنّ عملية «طوفان الأقصى» كفيلة بزيادة هذه النسب، خصوصاً مع مغادرة 454 ألف مستوطن بلادهم، منذ تشرين الأول، معظمهم لدواعٍ أمنية. ورغم أن هذا العدد أقلّ بالنصف من ذاك الذي يخصّ من غادروا في تشرين الأول من العام الماضي، إلّا أنّ المخاوف تزداد من أن هذه الرحلات قد تدوم إلى الأبد في ما يسمّى بـ«الهجرة العكسية».
وشهدت محطّات سياسية سابقة ارتفاع معدّلات الهجرة العكسية، في ما عبّر عنه بروفيسور صهيوني بالقول: «اليهود في طهران أكثر أماناً من عسقلان». وفي عام 1990، غادر 14200 يهودي بسبب «انتفاضة الحجارة»، وفي عام 2001، هاجر 27200 يهودي بسبب «انتفاضة الأقصى». ويقول الباحث جورج كرزم، في دراسة بعنوان «الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين»، إنّ مواجهةً عسكريّةً مكثّفة طويلة الأمد، تمتدّ لأشهر طويلة أو سنوات، ستعني استنزافاً متواصلاً في البنْية البشرية الصهيونية؛ ما سيحفّز بقوّة تعاظُم الهجرة اليهودية المعاكسة، وسيدفع العديد من اليهود إلى النزوح نحو الخارج، بخاصّة أولئك الذين يملكون جوازات سفر أجنبية، ما يعني تفاقم عوامل الانهيار الداخلي لبنية إسرائيل.
ويتكبّد الكيان ملايين الدولارات جراء النزوح الداخلي والخارجي، عدا عن المبالغ الطائلة التي سبنفقها أو بطلبها من أميركا للاستمرار في الحرب. وأعلنت وزارة المالية الصهيونية تعديل موازنة العام المالي الحالي، وقدَّرت التكلفة المباشرة للحرب بنحو 246 مليون دولار يومياً ، كما قدّمت الولايات المتحدة 14 مليار دولار للدعم العسكري، كجزء من حزمة إنفاق طارئة تصل قيمتها إلى 106 مليارات دولار. ومن جهتهم، يقول الوزراء الصهاينة إنهم لا يملكون الوقت لتقييم التكاليف غير المباشرة للحرب على الاقتصاد المصاب بالشلل من جرّاء استدعاء جنود الاحتياط، إذ لا يبدو التفكير في الخسائر المالية على سُلّم أولويات الحكومة. والحقيقة هي أن الخسائر المالية في ذاتها محدودة التأثير، ما دام الكيان يستند إلى مشروع غربيّ وأساليب بقاء خارجية تدفع بتمويل لا محدود. لكن تبعات هذه الخسائر على أمن المستوطنين واستدامة الهجرة اليهودية واستقرار القطاعات التجارية، هو ما يهمّ بالنسبة إلى مشروع سياسي أصبحت فكرته وجدواه محطّ تشكيك قطاع من الغربيّين أنفسهم.