لا يحتاج أي متابع للأحداث في شمال شرق سورية منذ بدء الحرب على سورية الكثير من العناء ليكتشف أن أمريكا ومن خلف ستار تلعب بالميليشيات العميلة لها أي «قسد» ليس لصالحها فقط، بل ولصالح الأطماع العثمانية الجديدة المتمثلة بأردوغان وحزبه ألإخواني، الذي هو بالأصل احد أدوات السياسة الأمريكية الصهيونية في المنطقة، ويتلقى نتيجة حسن أدائه كل دعم ممكن حتى على حساب شعوب المنطقة، وأولها الشعب السوري.
ففي بداية الحرب تذرع الزعماء الأكراد الذين يستدرون عطف المواطنين البسطاء من أبناء المكون الكردي الطيب والبسيط بأنهم يسعون لحمايته من المطامع التركية، استغلوا ذلك فشكلوا ميليشيات تأتمر بالنهاية بالأوامر الأمريكية بواسطة الأدوات من الزعامة الكردية، وسموها قوات حماية الشعب الكردي، ثم تتالت التسميات والوظائف المؤقتة إلى أن أصبحت بالمسمى الحالي أي «قسد»، هذه الميليشيات كانت دائما عاجزة عن حماية المناطق التي تهددها المطامع الأردوغانية كعفرين، وفي الوقت نفسه تمانع في تواجد قوات الجيش العربي السوري للدفاع عنها، فكانت النتيجة أن القوات التركية احتلت منطقة عفرين وشردت شعبها إمام ناظري الميليشيا الكردية والولايات المتحدة، التي عندما اكتملت الحشود التركية حول عفرين أعلنت أن عفرين ليست ضمن المنطقة المشمولة بالحماية الأمريكية، وهكذا أحتلت عفرين وشرد، أهلها وكل ما فعلته قسد هو استهداف بعض الآليات العسكرية للمحتل التركي كل عام أو عامين لتعيد الكرة بأن يتذرع أردوغان بأن المسليشيا تستهدف قواته ليقوم بمزيد من الاحتلال وتقوم قسد بمزيد من عمليات الفرار وترك الأراضي السورية للمحتل.
يوم السبت الفائت تم استهداف آلية عسكرية تابعة لجيش الاحتلال التركي في منطقة الباب، واتهمت تركيا قسد بالمسؤولية عنها من أجل التمهيد لما يمكن أن يكون عملية عسكرية جديدة في ريفَي حلب والحسكة، باستغلال نقطتَين: عدم وجود قواعد أميركية في تلك المنطقة، ما يسهّل «اللعب» ضدّ «قسد» على مسرحها، والتوتر المتجدّد بين «الإدارة الذاتية» والقياد السورية على خلفية الزيارات الأوروبية لقسد التي تهدف إلى إسباغ صفة دولية على نواياها الانفصالية الواضحة.
وقد شكّل الهجوم على المركبة ، وما أدى إليه من مقتل جنديَين كانا على متنها، يوم السبت الفائت، ذريعة لتركيا لتصعيد استهدافها العسكري لمناطق خاضعة لسيطرة «قسد» في محيط عفرين ومنبج وتل رفعت. وامتدّت عمليات الاستهداف التركية إلى مناطق سيطرة «قسد» في كلّ من أبو رأسين وتل تمر، في ريف الحسكة الشمالي الغربي، فيما بدا واضحاً السعي التركي إلى استثمار حادثة ريف الباب لغايات توسّعية. ويترافق التصعيد العسكري اللافت – وإن المحدود – بين الجانبين في الأيام الأخيرة، مع حملة إعلامية وسياسية تقودها أنقرة، لإثبات الخطورة التي يشكلّها وجود «قسد» في المنطقة على حياة الجنود الأتراك، مع استغلال نقطة ضعف الأخيرة، والمتمثّلة في توتّر علاقاتها مع القيادة السورية ومعرفة تركيا الأكيدة بأن قسد لا تنوي القبول بأي حل ىسياسي يحفظ وحدة الدولة السورية. ويشي التركيز التركي على خطورة العملية، التي ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة كما هو ظاهر من سياق التطوّرات الميدانية، بالسعي إلى تأليب «المجتمع الدولي» على «قسد»، تحت لافتة «الإرهاب».
وفي وقت تعتبر فيه مصادر مقرّبة من «قسد» حادثة ريف الباب «ردّاً على التصعيد التركي باستهداف المناطق المدنية وسقوط ضحايا»، يحضر التوعّد التركي بالردّ على الهجوم بشكل حازم، ليكشف عن نيّات عسكرية توسّعية، وفق ما أنبأ به، مثلاً، تعهّد الرئاسة التركية بـ«الردّ على المجموعات الإرهابية التي تسبّبت في مقتل وجرح الجنود الأتراك في منطقة الباب شرق حلب». وأكّد رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، في تغريدة على «تويتر»، أنه «لا ينبغي لأحد أن يساوره الشكّ في أن نضالنا سيستمرّ حتى نجتثّ جذور الإرهاب ونجعل حدودنا آمنة»، فيما تعهّد نائب الرئيس، فؤاد أوقطاي، بـ«ألّا تذهب دماء الجنود سدى، وبمحاسبة الإرهابيين». وعليه، فإن اختيار الأتراك جبهتَي حلب والحسكة، للتصعيد العسكري ضد «قسد»، يشي بإمكانية تطوير الهجوم إلى عملية عسكرية واسعة، تستهدف «قسد» في هاتين الجبهتين، اللتين يعود تركيز أنقرة عليهما إلى عدم وجود أيّ قواعد أميركية فيهما، ما يجعل إمكانية شنّ عملية واسعة هناك أسهل، استناداً إلى تجربة الهجوم على كلّ من رأس العين وتل أبيض واحتلالهما، بعد أيّام قليلة من الانسحاب الأميركي منهما.
وهكذا تتكرر نفس الطريقة وبنفس السلسلة قسد أمريكا تركيا ثلاثي يخدم هدفا واحدا هو تفتيت التراب السوري ومزيد من الاحتلال التركي.