تتمثّل الفرص الرئيسة في مبادرة جنوب أفريقيا، في رجحان أن تكون في الأساس ضمن جهود جماعيّة لوقف التصعيد الحالي
تصاعد صوت جنوب أفريقيا، وسط لوثة صهيونية وغربية داعية إلى الانتقام المطلَق من أهالي غزة، وتصفية القضيّة الفلسطينية من بوابة الإبادة الجماعية، منفرداً تقريباً بالدعوة إلى “وقف الاعتداءات الصهيونية، والعنف المتبادل، وتحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين”.
فقد أعربت حكومة هذا البلد، في بيانها الأول حول العدوان الأخير (7 الجاري)، عن عميق قلقها من التصعيد الكارثي في الصراع «الإسرائيلي – الفلسطيني»، وحاجة الإقليم الملحّة إلى عمليّة سلام شاملة، في إطار “حلّ الدولتين”، مؤكدةً أن جنوب أفريقيا، التي أرجعت انفجار الوضع إلى استمرار التوسّع الاستيطاني والاعتداءات على المسجد الأقصى والمواقع المسيحية، ستعمل مع “المجتمع الدولي” للتوصّل إلى سلام دائم يقود إلى قيام دولة فلسطينية “داخل حدود عام 1967 المعترف بها دوليّاً”.
وبعد البيان بساعات، كشفت بريتوريا عن وساطتها لإنهاء الحرب، معربةً عن استعدادها “لمشاركة خبراتها في الوساطة، وتسوية الصراع، كما فعلت على المستويَين القاري والعالمي”، وآخر وجوه ذلك قيادة الرئيس سيريل رامافوسا مهمّة السلام الأفريقية في الأزمة الروسية – الأوكرانية، والمكوّنة من سبع دول أفريقية.
مبادرة جنوب أفريقيا: الفرص والتهديدات
تتمثّل الفرص الرئيسة في مبادرة جنوب أفريقيا، في رجحان أن تكون في الأساس ضمن جهود جماعيّة لوقف التصعيد الحالي، وليس لوضع “عمليّة السلام” على مسار جديد. كما أن بريتوريا، التي تستضيف واحدة من أكبر الجماعات اليهودية في العالم خارج إسرائيل، حاضرة بقوّة في الشأن الفلسطيني، إذ استضافت بعض الجهات المعنيّة بالشؤون الفلسطينية في عامَي 2015 و2016، ممثّلين عن حركتَي “حماس” و”فتح” (وبدعمٍ مباشر من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما)، لإجراء محادثات من أجل تجاوز خلافاتهما. ويمكن مبادرة جنوب أفريقيا حشْد مواقف مهمّة في “الجنوب العالمي”، ولا سيما مع تطلُّع الفلسطينيين إلى المواقف الروسية والصينية، باعتبارها تُوازن، وإنْ معنويّاً، التحيّز الغربي المطلق إلى الصفّ الصهيوني. لكنّ تصريحات رامافوسا الأخيرة (15 الجاري)، انطوت على ما رآه البعض أهمّ مهدّدات نجاح هذه المبادرة (سواء طُرحت فرديّاً، أو ضمن جهد دولي تدلّ بعض المؤشرات على احتمال تحقّقه قريباً)، إذ أعلن تضامن بلاده الكامل مع الشعب الفلسطيني في محنته، ما عزّز التصوّر الصهيوني بأن هذه المواقف تصبّ في مصلحة الفلسطينيين. وعلى رغم أن مواقف رامافوسا الأخيرة، ولا سيما مقارنته النضال الفلسطيني بتجربة أفارقة بلاده، لا تمثّل حدثاً جديداً، إلّا أن توقيتها دالّ للغاية. كما أن دعوته المتجدّدة، خلال اجتماع اللجنة التنفيذية القومية لـ”المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم، المجتمع الدولي والأمم المتحدة وجميع الهيئات الدولية الأخرى المعنيّة، إلى ضمان عودة السلام إلى فلسطين، وسحب الحكومة الصهيونية أوامرها بإخلاء شمال غزة، ستعمّق الرفض الصهيوني لأيّ جهود جنوب أفريقية من زاوية ما سيُعدّ تحيّزاً إلى صالح القضيّة الفلسطينية، وهو ما عبّرت عنه بالفعل “الجبهة المتحدة بلس” المعارضة لـ”المؤتمر الوطني الأفريقي”، والتي رأت أن رامافوسا بدا منحازاً إلى “هجوم المقاومة على إسرائيل”، “وقتل المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الرضّع”، على حدّ زعم الجبهة.ه
بريتوريا والمسار الأممي: حلول في الأفق؟
من جهتها أعلنت وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور (15 الجاري)، أن الأسبوع الحالي سيشهد طرْح عدد من مشروعات القرارات في الأمم المتحدة. وبعد خطاب حماسي داعم لفلسطين وقضيّتها، أكّدت باندور أن السلوك الصهيوني، كاشف لحجم المساعدة الملحّة التي يحتاج إليها الشعب الفلسطيني في مواجهة إسرائيل وعدوانها، ودعت مواطني بلادها (أكثر من 60 مليون نسمة) إلى تقديم الغوث للفلسطينيين عبر الحدود المصرية – الفلسطينية. ويبدو من حماسة باندور وجرأتها وربْطها بين العدوان الصهيوني ومساعي الكيان الصهيوني للتوغّل في أفريقيا من الأبواب الخلفية، أن ثمّة تراجعاً في حظوظ مبادرة بريتوريا.
وفي ظلّ الاصطفاف الغربي الحالي خلف تل أبيب ودعْمها عسكريّاً من قِبَل واشنطن ولندن وبرلين، واستحالة حدوث تدخّل أممي ناجع على الأرض في الأزمة في غزة، فإن جهود جنوب أفريقيا، والتي قد تلتقي مع مواقف عربية لاحقاً، وإنْ لم ترقَ بعد إلى مواقف جماعية رسمية في ظلّ غياب مشين لـ”جامعة الدول العربية”، ستنحصر في ضمان صدور قرار أممي يكفل عدم إقدام إسرائيل على حملة الإبادة الجماعية التي تحضّر لها راهناً. ويُتوقّع أن يشجّع الموقف الجنوب أفريقي، العديد من الدول الأفريقية، على التصويت لمصلحة مثل هذا القرار، ووضْعه في سياق اصطفاف الجنوب العالمي وراء واحدة من أقدم قضاياه. ويعزّز ذلك السعي الجنوب أفريقي، ما لاحظه مراقبون من تقارب سعودي – إيراني متصاعد في ملفّ الأزمة الفلسطينية (وهما شريكان جديدان لجنوب أفريقيا ضمن مجموعة “بريكس”)، وتجميد الرياض “ملفّ التطبيع مع إسرائيل”، في إطار مراجعة شاملة لأولويات سياستها الخارجية. ومع استمرار ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين، حذّر خبير أممي في شؤون حقوق الإنسان والأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967، من مواجهة الفلسطينيين حملة تطهير إثني جماعي يتطلّب تحرّكاً عاجلاً من “المجتمع الدولي لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل”، وهي إشارة تمثّل ملاحظة مهمّة ودالّة على احتمال تبنّي الأمم المتحدة مشروعاً عاجلاً لوقف الحرب.
بريتوريا وحشد الجنوب العالمي
تبنّت الدول البارزة في الجنوب العالمي، ولا سيما الصين وروسيا، إضافةً إلى جنوب أفريقيا، مواقف معتدلة من الأزمة في فلسطين، حيث يتصاعد بشكل واضح موقف رافض لإطلاق إسرائيل يدها في التنكيل بالشعب الفلسطيني، وما تسمّيه “إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط”. وتزامنت جهود جنوب أفريقيا الدبلوماسية، سواء من خلال مسار مبادرتها المبكرة، أو عبر تحفيز عمل الأمم المتحدة، مع اجتماع مهمّ جمع وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في بكين، أمس، وأسفر عن دعوةٍ إلى وقف إطلاق النار بين «حماس وإسرائيل»، واستئناف محادثات السلام الثنائية، وتحرّك مجلس الأمن للمساعدة في حلّ الصراع. وتتّسق مخرجات الاجتماع، مع مقاربة جنوب أفريقيا، وسط توقّعات بأن يكون هناك تنسيق رفيع المستوى بين هذه الدول المعنيّة بحماية مصالح الجنوب العالمي، وتعديل قواعد عمل النظام العالمي لمصلحة عدالة أكبر.
وتمثّل هذه الضغوط الأولية تحفيزاً قويّاً لجهود منع استمرار الكيان الصهيوني في حرب إبادة فلسطينيي غزة بغطاء غربي سافر لتحقيق غايات أخرى تتجاوز “الانتقام” من “حماس”، إلى وضع نهاية حاسمة (من وجهة نظر تلك القوى) للقضيّة الفلسطينية، وإعادة ضبط قواعد العمل في “الشرق الأوسط” عبر الضغط على عدد من دوله لتبنّي مواقف غير مبدئية تجاه القضيّة الفلسطينية، وإسناد الكيان بدعم لحظي غير مسبوق منذ نحو خمسة عقود، تمهيداً للعبها أدواراً إقليمية في مواجهة إرهاصات تمدُّد “الجنوب العالمي” داخل الإقليم. ومن هنا، تأتي أهميّة جهود بريتوريا الحالية في العمل على الصعيد الأممي وحشْد كتلة أفريقية لا يستهان بها بالتنسيق مع شركاء من مثل الصين وروسيا، أو حتى من بين دول الإقليم من مثل إيران والسعودية، وربّما مصر التي تواجه ضغوطاً أميركية وصهيونية هائلة للتراجع عن مواقفها المبدئية إزاء الأزمة، ومجمل القضيّة الفلسطينية.