بعد تأجيل دام أربعة أشهر في أعقاب ما قالت واشنطن إنّه «منطاد تجسس صيني» دخل أجواءها، بدأ وزير الخارجيّة الأميركي، أنتوني بلينكن، محادثات في الصين، اليوم، في إطار زيارة تعد الأعلى مستوى لديبلوماسي أميركي منذ نحو خمس سنوات. إلا أنّه، وعلى الرغم من «ازدحام» جدول أعمالها، لا يُنظر إلى هذه الزيارة على أنّها قادرة على إحداث أي خرق يُذكر، بل ما يعوّل عليه الطرفان هو أنّها ستمهّد لزيارات مسؤولين آخرين، تكون ذات أهمية أكبر لبكين تحديداً.
ومع أنّ بلينكن هو من بادر، منذ أشهر، إلى إلغاء رحلته إلى الصين، بدا السيناريو معكوساً قبيْل زيارته إلى «الجمهورية الشعبية» هذه المرة، إذ كان واضحاً، خلال الفترة الأخيرة، أنّ واشنطن هي من تدفع قي اتّجاه إجراء لقاءات مع مسؤولين صينيين، بينما ظهرت بكين أخيراً كمن يقدّم «معروفاً» لواشنطن، من خلال السماح لبلينكن بالحضور إليها، وفق ما نقلت صحيفة «بوليتيكو» الأميركية عن إيفان كاناباثي، المدير السابق لشؤون الصين وتايوان ومنغوليا في «مجلس الأمن القومي». ورغم المبادرات الأميركية، لا يبدو أنّ بكين تتّجه إلى تخفيض حدّة خطابها في أي وقت قريب، إذ «مهّدت» للزيارة بجملةٍ من التصريحات الرافضة لأي تدخلات خارجية في شؤونها، محمّلةً واشنطن، وحدها، مسؤولية تدهور العلاقات بين الدولتين، ومشدّدةً، مرة جديدة، على أنّ على الولايات المتّحدة التخلي عن «وهم أنّها قادرة على التعامل مع الصين من موقع قوة». وفي اتصّال هاتفي مع بلينكن، وصفه البعض بـ«التوبيخي» قبل أيام من الزيارة، عبّر وزير الخارجية الصيني، تشين غانغ، عن هذا الموقف بوضوح، مؤكداً أنّ «على واشنطن البدء بإظهار الاحترام».
وفي موقف بكين هذا، استكمال لسلسلة من الخطوات التي اتّخذتها على الصعيد الديبلوماسي تحديداً، خلال الأشهر الماضية، لتعزيز موقفها الرافض لـ«منطق القوة» الأميركي»؛ إذ عمدت، بنفسها، إلى تجميد الاتصالات الديبلوماسية الثنائية رفيعة المستوى في أعقاب الاتهامات الأميركية حول حادث «منطاد التجسس الصيني»، في شباط، ثمّ «صدت» الجهود الأميركية لإعادة إحياء الاتصالات رفيعة المستوى، وصولاً أخيراً إلى رفضها إجراء لقاء بين وزير خارجيتها، لي شانغ فو، ونظيره الأميركي، لويد أوستن، على هامش قمّة «شانغريلا» الأمنية في سنغافورة، بعد رفض واشنطن رفع العقوبات التي فرضتها على المسؤول الصيني. وقد دفع ذلك بالولايات المتّحدة إلى الإصرار على إعادة جدولة زيارة بلينكن، علّها «تمهّد»، بحسب مسؤولين أميركيين، إلى مزيد من الزيارات بين البلدين، وفي نهاية المطاف، إلى قمة طال انتظارها بين الرئيس الأميركي، جو بايدن، ونظيره الصيني شي جين بينغ، هذا العام.
ماذا على جدول الأعمال؟
يشمل جدول الأعمال المزدحم خلال الزيارة التي تمتدّ على يومين، ضرورة إعادة تفعيل العلاقات الديبلوماسية رفيعة المستوى مع بكين، وإنشاء قنوات اتصال لنزع فتيل التوترات الحالية، التي قد تتصاعد خلال أي أزمة محتملة، ومن جملتها «الحوادث» الأخيرة بين السفن البحرية أو الطائرات في مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي. كما من المرجح، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أن يولي بلينكن أهمية كبرى للقضايا الأمنية، لا سيما في ما يتعلق بـ«إنشاء الصين قواعد عسكرية في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، أو تقديم مساعدات عسكرية لروسيا»، فيما من المتوقّع أن تخيم قضية ما زعمت تقارير صادرة عن صحف أميركية، أخيراً، أنّه «قاعدة تجسس» أنشأتها الصين في كوبا، أتاحت لبكين القدرة على مراقبة الاتّصالات على امتداد جنوب شرق الولايات المتحدة، على المحادثات بين الجانبين الأميركي والصيني، علماً أنّ بكين وهافانا نفت هذه التقارير. كما سيطلب بلينكن من الصين إطلاق سراح بعض المواطنين الأميركيين المحتجزين أو المسجونين أو الممنوعين من مغادرة البلاد، والعمل على استئناف تبادل المواطنين، بما يشمل زيادة العدد الصغير من تأشيرات الصحفيين التي وافقت سابقاً كل دولة على منحها للأخرى. وبحسب مسؤولين أميركيين، فسيطلب بلينكن أيضاً من بكين الحد من تصدير المواد المستخدمة في صناعة «الفنتانيل»، «وهو عقار أدى إلى مشكلة إدمان قاتلة في الولايات المتحدة ودول أخرى».
أمّا الصين، فمن المتوقع أن تتطرق إلى سلسلة من الممارسات الأميركية التي تصفها بـ«الظالمة»، «والصادرة عن «قوة مهيمنة متراجعة، ومصممة على التمسك بالسلطة، من خلال احتواء الصين اقتصادياً وعسكرياً وديبلوماسياً»، بحسب الصحيفة الأميركية. وعلى رأس اللائحة الصينية طبعاً، تايوان، التي لا تزال واشنطن، وبالرغم من زعمها أنّها لم تغير سياستها إزاءها، تمدّ الجزيرة بالمساعدات العسكرية، جنباً إلى جنب مع إطلاق بايدن تصريحات متكررة عن «التزام بلاده بالدفاع عن الجزيرة»، وصدور بيان عن مسؤول كبير بأن الولايات المتحدة تنظر إلى تايوان على أنّها «رصيد استراتيجي» لأمنها القومي، بحسب مجلة «ذا نيو ريببلك» الأميركية، علماً أنّ الرئيس الصيني وصف تايوان بأنها «في صميم المصالح الأساسية للصين»، متّهماً، في أكثر من محطة، الولايات المتحدة بدعم القوى «المؤيدة للاستقلال» والتدخل في الشؤون الداخلية للصين. في سياق منفصل، من المتوقع أن تندّد الصين، كذلك، بالجهود التي تقودها الولايات المتحدة لتقييد وصولها إلى رقائق أشباه الموصلات المتقدمة ومعدات التصنيع.
زيارة «تمهيدية»
ينظر الجابنان الصيني والأميركي إلى هذه الزيارة على أنّها خطوة تمهيدية لإعادة العلاقات الدبلوماسية الثنائية المتوقفة منذ نحو خمسة أشهر، مع تشاؤم إزاء ما يمكن أن تحققه من أي نتائج تذكر. في السياق، نقلت «بوليتيكو»، عن مسؤول كبير في وزارة الخارجية، أنّ المسألة لا تتعلق بـ«زيارة واحدة ومحادثة واحدة». وقد وصل بعض المراقبين حدّ القول إنّ بكين قبلت بزيارة بلينكن كي تكون هذه الأخيرة بمثابة خطوة أولى باتّجاه زيارة وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، لبكين، «والتي تخدم مصالح الصينيين وأولوياتهم» بشكل أكبر. في الإطار، قال ديفيد دولار، من «معهد بروكينغز»، إنّ «أكثر ما يمكن التأمل به هو أن تمهد زيارة بلينكين لزيارات لاحقة للوزيرتين يلين وريموندو»، في إشارة إلى وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو، في وقت «تثير فيه القيود التجارية والتكنولوجية المختلفة، والتي لا يمكن بحثها مع فريق بلينكن، قلق بكين»، بحسب صحيفة «واشنطن بوست الأميركية».
تزامناً مع ذلك، يتساءل المراقبون عمّا إذا كان بلينكن سيلتقي بالرئيس شي، علماً أنّ مثل هذا اللقاء لن يتم التأكيد عليه إلا في اللحظة الأخيرة، وهو مرتبط إلى حدّ كبير بكيفية سير الاجتماعات اليوم وصباح يوم غد.