تنهمك الإدارة الأمريكية حاليا في توسيع مناطق احتلالها في سورية، وفي تحصينها عسكريا واقتصاديا،وفي هذا الإطار سمحت لشركة لافارج الفرنسية، التي كانت أحد مصادر تمويل تنظيم داعش الإرهابي بإعادة العمل في معمل الاسمنت التابع لها في شمال شرق سورية، بعد عامين ونصف عام من توقّف الإنتاج فيه، بسبب ثبوت تمويل الشركة لداعش بعلم ورعاية المخابرات الفرنسية، وتجري حاليا الأعمال التمهيدية لإعادة تشغيل المعمل تحت حماية مباشرة من قوات الاحتلال الأميركية.
ففي إطار خطّتها لـتشديد قبضتها وقبضة عملائها من منظمة قسد على مناطق احتلالها في سورية، بدأت الولايات المتحدة عملية إعادة انتشار عسكري امتدّت إلى مواقع كانت انسحبت منها عام 2019، بالتزامن مع عمليات عسكرية تركية حينها احتلت خلالها تركيا مواقع قرب حدودها. وجاءت التحرّكات الأخيرة بعد نحو أسبوعين على استقدام تعزيزات عسكرية من العراق، ضمّت آليات ثقيلة ومدرّعات، في وقت تابعت فيه القوات الأميركية عمليات التدريب المشتركة مع «قوات خاصة» كردية لحماية المواقع النفطية التي تحتلّها واشنطن في سورية، في نطاق خطّة متكاملة لإعادة تنشيط الحضور الأميركي.
وأفادت مصادر ميدانية كردية، لصحيفة «الأخبار» اللبنانية، أن قوات الاحتلال الأميركية بدأت عمليات تحضير قاعدة «خراب عشق»، الواقعة على طريق «M4» الدولي في ريف مدينة عين العرب (كوباني) شمالي حلب، وهي نقطة محاذية لمواقع تمركز القوات التابعة لأنقرة، كما أنها تضمّ معمل «لافارج» الفرنسي للإسمنت، والذي توقّف في شهر أيار من عام 2019، بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية منه (بعدما اتّخذته قاعدة عسكرية تضمّ مهبط مروحيات)، حيث قامت بإحراق أقسام منه قبيل عملية الانسحاب، بينها أقسام أرشيفية، وبعض مستودعات المؤن، ومكاتب التخطيط العسكري والاجتماعات. وعلى الرغم من ذلك، ظلّ المعمل الواقع على خطّ تماس في منطقة شديدة التعقيد العسكري، تحت السيطرة الأميركية عن بعد، إلّا أنه جُمّد بعد غياب الغطاء العسكري، وصدور قانون العقوبات الأميركية «قيصر»، لتأتي الإعفاءات الأميركية لبعض المناطق في الشمال والشمال الشرقي من سورية، ويُعود معها العمل على إعادة تشغيله.
المصادر الكردية التي أكدت أن عمليات إعادة تأهيل المعمل جارية لإطلاقه قريباً، أوضحت أن العمل جارٍ في الوقت الحالي بإشراف من قوات «التحالف» على تأمين قطع إلكترونية، إضافة إلى تحصين المنطقة عسكرياً عن طريق حفر أنفاق واستقدام معدّات لوجستية عسكرية.
ويأتي ذلك في وقت تستعدّ فيه ما تسمي نفسها «الإدارة الذاتية» التي تقودها «قوات سورية الديمقراطية» (الكردية) لإصدار «قانون خاص لاستثمار الإعفاءات الأميركية من قيصر»، وسط توقّعات بأن تشهد تلك المناطق إقبالاً استثمارياً أجنبياً بشكل متزايد، خصوصاً أن المساحات المعفاة تقع غالبيتها تحت الاحتلال الأمريكي، وجزء منها تحت الاحتلال التركي.
شركة لافارج
وذاع صيت شركة «لافارج» الفرنسية، المملوكة لشركة «هولسيم» السويسرية، والتي باتت تُعرف باسم «لافارج هولسيم» خلال سنوات الحرب الماضية، بعد حملات قادتها منظّمات فرنسية غير حكومية كشفت تورّط الشركة في تقديم دعم مالي لتنظيمات مسلّحة بينها تنظيم «داعش» الذي سيطر على المنطقة التي تضمّ المعمل، وذلك بموافقة الاستخبارات الفرنسية واطّلاعها، حيث أثبتت الوثائق أن الشركة دفعت نحو 14 مليون يورو لمواصلة أعمالها، علماً أن موظّفين فيها يخضعون للمحاكمة في الوقت الحالي في فرنسا. واستمرّ المعمل في الإنتاج بعد سيطرة القوات الكردية بدعم من قوات «التحالف» على عين العرب عام 2016، قبل أن يتوقّف عام 2019 إثر انسحاب القوات الأميركية، ليعود في الوقت الحالي إلى الاستعداد للإنتاج مرّة أخرى.
ولا تقتصر عمليات إعادة التموضع الأميركية في نقاط انسحبت منها سابقاً على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تُظهر خريطة التحرّكات الأميركية أخيراً رغبة أميركية في تثبيت خطوط التماس الحالية وتحصينها، إضافة إلى تعميق حضور واشنطن وتمدّدها نحو الشمال السوري الخاضع لسيطرة القوات التركية. وظهر دور قاعدة «خرب عشق» خلال عملية الاغتيال التي نفّذتها القوات الأميركية ضدّ زعيم تنظيم «داعش» السابق، عبد الله قرداش القرشي، عندما انطلقت الحوّامات التي نقلت الجنود الذين نفّذوا العملية من «خراب عشق»، الأمر الذي يبدو أنه أعاد إلى القاعدة أهميتها الإستراتيجية، في ظلّ الاهتمام الأميركي المتزايد بالشمال السوري، ومن بينه إدلب في الشمال الغربي، والتي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) الإرهابية، وتخضع للسلطة التركية.
وكثّفت الولايات المتحدة من تحرّكاتها العسكرية والسياسية في سورية بشكل واضح بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، لتمثّل الساحة السورية ساحة صراع غير مباشر بين واشنطن وموسكو، التي تملك بدورها حضوراً عسكرياً لافتاً في الشمال الشرقي من سورية، متّنته بعيد الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية عام 2019. وتعمل أميركا على خطوط عدّة متوازية: اقتصادية عبر خلق بيئة نموّ غير متوازن في سورية من خلال دعم مناطق معينة؛ وعسكرية عبر إعادة الانتشار والتموضع القائمة حالياً؛ وسياسية عن طريق زيادة التشبيك مع تركيا ومحاولة إبعادها عن روسيا، بالإضافة إلى العمل على فتح قنوات تواصل بين عميلتها «قسد» وفصائل إرهابية تابعة لأنقرة لتشكيل جبهة وازنة يمكنها مضاعفة الضغوط عبر مسارات التفاوض السياسية لحلّ الأزمة السورية، والتي لم تحقّق حتى الآن أيّ خرق للمشهد القائم.