تؤكد كل الدراسات الاقتصادية التي أجريت، ومنها حكومية، أن نسبة الفقراء في سورية تخطت الخمس وتسعين بالمائة، وأن البلاد بحاجة إلى معجزة لإنقاذها مما يعانيه مواطنوها من ضنك العيش.
ومع أن الكثيرين يشككون في نِسب الفقر المعلَنة في سورية، إمّا لجهلهم في كيفية احتساب معدّلاته، وإمّا لرغبتهم في تبرئة «ساحة» السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية. لكن الأكيد، وفق معظم التقديرات والمؤشّرات، أن الفقر في هذا البلد تخطّى كلّ سقف وتوقّع، وبلغ مستويات غير مسبوقة يُراوح ما بين 90 و95%، في ما بات يحتاج إلى معجزة تنموية لمعالجته.
ومن الملاحظ أنه لا تروق الكثيرين الأرقامُ والبيانات المتداولة عن معدّلات انتشار الفقر بين السوريين، إذ يعتقد هؤلاء أن هذه الأرقام غير صحيحة ومسيّسة أحياناً، مستندين في قناعتهم إلى مجريات ما تحمله الحياة اليومية في البلاد من مظاهر إنفاق، وحجم ما يجري تداوله من أموال في الأسواق المحلية، وقيمة الحوالات الخارجية، وما إلى ذلك من سُبل عيش السوريين. ومع أن جزءاً من البيانات المذكورة صادرة عن مؤسّسات حكومية، كـ«المكتب المركزي للإحصاء» و«هيئة تخطيط الدولة»، إلّا أنها تُعامَل كتلك الصادرة عن مؤسّسات بحثية مستقلة، أو عن منظّمات أممية تلاحقها شكوك حيال صحّتها ودقة منهجيّتها العلمية، بينما يُفترض أن يَحدث العكس، بالنظر إلى أن المؤسّسات الحكومية عادة ما تحوم حولها شُبهة الانحياز إلى رؤية الدولة، وما يترتّب على هذا من تجميل للواقع، عبر التقليل من حجم المشكلات التنموية التي تواجه البلاد.
آخر إحصاء رسمي للحالة المعيشية أجري عام 2015 ولم ينشر إلاَّ في عام 2019 وهو يعلن أن نسبة الفقر في سورية وفق خطّ الفقر الوطني الأعلى، وصلت في العام المذكور 2015 إلى حوالي 63.6%، فيما قُدّرت نسبة السكان الفقراء فقراً شديداً خلال السنة نفسها بحوالي 41.5%. ومنذ ذلك الحين، لم يتمّ تحديث هذه الأرقام، على رغم ما شهدته البلاد من تدهور شديد في أوضاعها الاقتصادية بدءاً من عام 2020، في حين تتحدث تقديرات غير رسمية، يمكن تصنيفها في خانتَين رئيسيتَين، أولاهما الأرقام الصادرة عن منظّمات الأمم المتحدة ووكالاتها الرئيسية، والتي تُجمع بحسب تقاريرها الدورية وتصريحات مسؤوليها على أن نسبة انتشار الفقر في سورية تزيد اليوم على 90%، وهي نسبة تمّ استنتاجها إمّا من خلال الخلاصات المبنيّة على خطّ الفقر الأممي البالغ 1.90 دولار للفرد في اليوم، أو من خلال نتائج مسوح الأمن الغذائي للأسر السورية، والتي نُفّذت بالتعاون مع الحكومة السورية، وآخرها كان في عام 2020. أمّا الخانة الثانية، فتتّصل بالتقديرات الصادرة عن مؤسّسات بحثية غير رسمية، والبارز فيها ما يصدر دورياً عن «المركز السوري لبحوث السياسات»، والذي أكّد في تقريره السنوي لعام 2020، أن معدّل الفقر الإجمالي وصل إلى ذروته في عام 2016، حيث سجّل ما نسبته 89.4%، ليتراجع بشكل طفيف مع بداية عام 2019، مسجّلاً نسبة قدرها 86%، ثمّ ليعاود في الربع الأخير من العام نفسه الارتفاع جرّاء الزيادة الحادّة في مستويات الأسعار. فيما قدّر «مركز دمشق للأبحاث والدراسات» (مداد) نسبة السوريين الذين يعيشون في فقر مدقع بحوالي 67%، بحسب تقرير له صدر في عام 2017.
على العموم، فإن جميع التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن معدّل انتشار الفقر اليوم في سورية يُراوح ما بين 90 و95%، وذلك استناداً إلى الارتفاع غير المسبوق في معدّل التضخم خلال عامَي 2020 و2021 والأشهر الأولى من العام الحالي، وفشل السياسات الحكومية في إنعاش العجلة الإنتاجية للبلاد بالشكل والمستوى المطلوبَين، فضلاً عن الضغوط الاقتصادية التي تُخلّفها العقوبات الغربية.
ومما يتذرع به الرافضون للنسب المذكورة وجود مؤشّرات اقتصادية معاكسة تتعلّق بإنفاق السوريين على جوانب معيّنة من حياتهم من قبيل: قيمة البيوع العقارية والتي وصلت إلى أرقام خيالية تتجاوز 10 تريليون ليرة خلال عام واحد تقريباً، قيمة المكالمات الخلوية السنوية التي أجراها السوريون من أجهزتهم والمُقدَّرة بأكثر من 400 مليار ليرة سنوياً، ازدياد عدد المطاعم والمقاهي وارتفاع عدد زبائنها، وغير ذلك. والبعض من التساؤلات المذكورة، غايته فقط التشكيك في مصداقية تلك النسبة، لرفع الملامة عن الحكومة، وتبرئة «ساحة» سياساتها الاقتصادية والاجتماعية.
الباحث في «المركز السوري لبحوث السياسات»، ربيع نصر، قال إن «التقديرات الإحصائية المتعلّقة بنسب انتشار الفقر في سورية والصادرة عن المركز، جرى احتسابها وفق خطّ الفقر الوطني الذي تمّ التوصّل إليه في عام 2009، وليس وفق خطّ الفقر الأممي الذي يتحدّث عن 3 دولارات كحدّ أدنى لإنفاق الفرد يومياً». ويوضح نصر، في حديثه إلى صحيفة «الأخبار» اللبنانية، أن الخطّ الوطني «وُضع وفق منهجية علمية متّفق عليها حدّدت الاحتياجات الغذائية وغير الغذائية. حيث تمّ تقدير متوسّط السعرات الحرارية الفعلية التي يحتاج إليها المواطن السوري في حالة الاستقرار والظروف الطبيعية، وبناءً على عدّة فئات فرعية، ثمّ جرى احتساب تكلفة تلك السعرات وفق عادات الشراء لدى شريحة معيّنة من المواطنين، يقصدون الأسواق التقليدية المعتادة، لا المولات ومراكز التسوّق الكبرى. وبعد ذلك، تمّت إضافة الاحتياجات غير الغذائية». في ضوء ذلك، فإن الحديث عن انتشار الفقر بين أكثر من 90% من السوريين، يبدو موضوعياً استناداً إلى بعض مؤشّرات الوضع الراهن والمتعلّقة بحصّة الفرد المتحقّقة من الاحتياجات الغذائية وغير الغذائية. فمثلاً، تُظهر النتائج الرسمية لمسح الأمن الغذائي الذي جرى نهاية عام 2020، أن 8.3% من الأسر تعاني من انعدام شديد في أمنها الغذائي، و47.2% تعاني من انعدام متوسّط، و39.4% تتمتّع بأمن غذائي مقبول، لكنها معرّضة لانعدام أمنها مع أيّ صدمة. وهناك فقط 5.1% من الأسر صُنّفت على أنها آمنة غذائياً.
فقر الخدمات
من المعروف أن الفقر لا يقاس بما ينفقه المواطن فقط، بل يضاف إلى ذلك مستوى الخدمات المقدمة له، فإذا كان مصطلح الفقر لا يتعلّق فقط بمستوى إنفاق الفرد على تأمين الحدّ الأدنى من احتياجاته الغذائية، أو ما يسمّى بالفقر المادي، فهو يشمل أيضاً ما يحصل عليه الفرد من خدمات صحّية وتعليمية، سكن ملائم، وغير ذلك. وفي هذا الإطار، تُظهر المؤشّرات الأوّلية المتعلّقة بقطاعات أساسية، وجود فجوة هائلة في مستوى الخدمات التي يحصل عليها الفرد. فمثلاً في قطاع التعليم، تؤكّد تقديرات منظّمة «اليونيسف» الصادرة في عام 2021، وجود 2.4 مليون طفل سوري لم يلتحقوا بمدارسهم. وتَلفت المنظّمة إلى أن «نظام التعليم لا يزال يعاني من الإجهاد الكبير، ونقص التمويل والتفكّك، وعدم القدرة على تقديم خدمات آمنة وعادلة ومستدامة لملايين الأطفال».
أمّا في مجال الصحّة، فإن تقريراً صادراً عن منظّمة «الإسكوا» يكشف أن عدد السوريين الذين يحتاجون إلى الرعاية الصحّية ارتفع خلال عام 2019 ليصل إلى 13.2 مليون شخص في جميع أنحاء البلاد. ويضيف التقرير الأممي أنه في العام نفسه، كان «هناك 15.5 مليون سوري يفتقرون إلى مصادر مياه آمنة، و 13.2 مليوناً كانوا يفتقدون إلى الحماية». وحتى بالنسبة إلى المأوى، فإن آلاف الأسر السورية خسرت منازلها مع تعرّض ما يقرب من مليون ونصف مليون منزل للضرر الجزئي والكلي.
ولهذا كلّه، يرى المدير السابق لـ«الإحصاءات السكنية» في «المكتب المركزي للإحصاء»، علي رستم، أن «الأمر لم يَعُد فقط منحصراً في ارتفاع معدّل انتشار الفقر، وإنّما يتجاوزه إلى ارتفاع مؤشّرَي فجوة الفقر وشدّته، خلال سنوات الحرب، وتحديداً الأخيرة منها، حيث بلغت فجوة الفقر ذروتها». ويبيّن رستم أنه «قبل فترة الحرب، كان الفقر في سورية غير عميق، وتالياً كان من شأن أيّ برامج ومشروعات تنموية أن تُحدث فرقاً في واقع الفقر وانتشاره آنذاك، وذلك من خلال انتشال أسر كثيرة من دائرته. لكن خلال الحرب، زاد عمقه إلى أعلى مستوى، وهو اليوم بات بحاجة إلى معجزة تنموية». ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الأمر نفسه بالنسبة إلى شدّة الفقر أو تفاوته بين الفقراء، وهو سابقاً لم يكن كبيراً، واليوم أيضاً ليس كبيراً، لأن الفقراء باتوا حالياً في مستوى واحد… في الفقر العميق«.