اقترح «معهد كوينسي للإدارة الأمريكية للدولة» انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة العربية لأن إسرائيل كفيلة بحماية المصالح الأمريكية فيها، وهي قادرة على ذلك وفق قوله، وقد أوجز الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى الأستاذ في معهد التخطيط القومي في القاهرة ملاحظاته بعد القراءة الأولية للملخّص التنفيذي للتقرير في ما يلي:
– 1 إن أميركا تعتبر إسرائيل أصلاً asset من أصول مكانتها الدولية عموماً، ومكانتها الإقليمية فيما يسمونه «الشرق الأوسط» خصوصاً. ومن ثم يُعتبر دعم أميركا لإسرائيل والتزامها الثابت بما يسمونه «الدفاع عن نفسها» (في مواجهة العرب طبعاً) مبدأ أساسياً من مبادئ سياستها الخارجية في الإقليم والعالم.
– 2إن الأولوية الإستراتيجية لما يفضل صديقنا كمال خلف الطويل أن يسميه «دولة الأمن القومي» في أميركا، ترتكز على مواجهة طرفين: روسيا والصين، على اختلاف في ترتيب أولوية المواجهة الإستراتيجية لكلتيهما بين «إدارة أميركية» وأخرى. فلقد كانت «إدارة ترامب» الجمهورية – المحافظة، تعطي الأولوية لمواجهة الصين، مع الميل بالتالي إلى مهادنة روسيا أو ربما (موادعتها) أحياناً. أما الإدارة الديمقراطية «شبه الليبرالية» لجو بايدن حالياً فإنها تعطي الأولوية لمواجهة روسيا.
ويرى التقرير المذكور أنه ليس هناك ما يضطرّ أميركا إلى الاحتفاظ بوجود دائم لقواتها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، حيث يحدوها هدفان لا يستلزم الدفاع عنهما الاحتفاظ بوجود دائم للقوات داخل الإقليم. هذان الهدفان هما مواصلة فتح «مضيق هرمز» وعدم السماح بإغلاقه تحت أي ظرف، من جانب أول؛ و عدم السماح باحتمال بروز قوة إقليمية شرق أوسطية معادية للولايات المتحدة (وعلى التحديد : خِصم adversary) وتكون ذات هيمنة عسكرية، أو ما يسميه التقرير Regional Hegemony بالقدر الذي يسمح لمثل هذه القوة بامتلاك قدرات عسكرية متعددة الاختصاصات والمهامّ، و يكون من شأنها إمكان شن هجوم مسلح جدّي على مصالح الولايات المتحدة الأساسية في المنطقة.
ويرى التقرير أنه ليست ثمة قوة في المنطقة تستطيع تحدي أميركا وإغلاق مضيق هرمز (بما فيه إيران) ، وليست هناك خشية حقيقية من قيام قوة إقليمية مهيمنة، حيث ينحصر احتمال قيام مثل هذه القوى في كل من: تركيا، إيران، العراق والسعودية. دعْ عنك هنا -كما يقول التقرير- أن كلاً من روسيا والصين ليس من المرجح أن تكرر أيٌّ منهما «غباء» الولايات المتحدة بسلوكها المغامر، وبما قد يصل إلى حدّ القيام بجهد منسق لمجابهة أميركا عسكرياً في عقر دار مصالحها الإستراتيجية الأساسية، مثل بقاء مضيق هرمز مفتوحاً لمرور إمدادات النفط العالمية وخاصة باتجاه الغرب.
ويلاحظ هنا عدم ورود اسم مصر ضمن القائمة المرشّحة لتكوين قوة إقليمية محتملة في «الشرق الأوسط». ولدينا تفسيران لمثل ذلك الموقف:
– التفسير المحتمل الأول أن كاتب وفريق إعداد تقرير «كوينسي» ربما يعتبران أن مصر لا تدخل في حسابات الجغرافيا السياسية ضمن نطاق «الشرق الأوسط» بمعناه الدقيق، وإنما تقع في (شمال أفريقيا) حسب تلك التسمية المطاطة التي أبدعتها عقول «مراكز التفكير الأميركية» بعد مؤتمر مدريد عام 1990، ونقصد «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» MENA تلك التسمية التي جرى صكّها خصيصاً لإدراج إسرائيل ضمن قائمة محدَّثة للشرق الأوسط العتيد، إلى جانب الدول العربية (وإيران) ..!
– أما التفسير المحتمل الثاني لعدم إدراج اسم مصر، في قائمة (المرشحين) للمكانة الإقليمية، من المنظور الأميركي لمعدّي التقرير المشار إليه، فهو أن مصر، من وجهة النظر هذه، قد جرى لها ما يشبه (الإخصاء) مرة واحدة وإلى الأبد (وعفواً لاستخدام هذا التعبير) منذ قيام السادات بإبرام (معاهدة السلام) مع إسرائيل عام 1979. من ثم اكتفى السادات من الغنيمة بسلامة الإياب بعد جولة أكتوبر الحربية الحاسمة، وأقرّ سلفاً بأن حرب أكتوبر آخر الحروب، وأن أميركا لديها 99% من «أوراق اللعبة» في الشرق الأوسط. وكانت النتيجة ابتعاد مصر، طوعاً أو كرهاً، عن محاولة لعب دور إقليمي- زعامي مذكور على امتداد المنطقة العربية، على نحو ما فعل جمال عبد الناصر… هكذا قد يعتبر كتّاب التقرير المعنيّ أن مصر لم تعد قوة يُخشى من انبعاثها كعامل محتمل مهدّد للمصالح الأميركية في الأجل الطويل، على غرار قوى أخرى، بما فيها العراق، ودع عنك السعودية، ولا نذكر تركيا وإيران.
فإن كان هذا الاحتمال الثاني أقرب إلى ما يفكر فيه مؤلف أو مؤلّفو التقرير المذكور، فإن هذا يعني أن أميركا، من منظورهم الخاص، ربما تحقّق مع مصر، ما سبق أن جرّبته بنجاح مع اليابان. وربما أن البعض من أقسام النخبة الأميركية، ذات (الغباء التاريخي) المعهود، يظن أن مصر (ذهبت بدون رجعة) منذ إبرام «المعاهدة». بيْد أنه ليس من الصحيح بالضرورة، ولا هو بالقياس المنطقي السليم على كل حال، تناظُر الحالة المصرية مع حالة اليابان، تلك القوة الآسيوية الإقليمية – العالمية، التي دوّخت، مع محور هتلر، معسكر (الحلفاء) في الحرب العالمية الثانية، وأبرزهم في خواتيم معاركها، كل من أميركا والاتحاد السوفيتي (روسيا) في آن معاً.
لقد قُدّر لأميركا أن تقوم بما يشبه عملية (إخصاء) كاملة للمارد الياباني، بعد إعلان (الاستسلام) في نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى قبل ضرب اليابان بالقنبلة الذرية مرتين (هيروشيما–ناغازاكي). ومن حينها، قامت أميركا بما يمكن أن يكون «مراضاة» اليابان بأن تلعب دور (العملاق الاقتصادي) الفرعي، إلى جوار أميركا وأوروبا الغربية، كجزء مما يسميه كتّاب اليسار بالثالوث الرأسمالي العالمي أو بلدان «المركز»: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان.
وهكذا تمت (الصفقة) التي جرى إبرامها دون إعلان، والتي بموجبها أصبحت اليابان في (عالم ما بعد الحرب) عملاقاً اقتصادياً، ولكنها بمثابة قزم سياسي وعسكري في آن معاً. ورغم الغصّة الكامنة التي يشعر بها اليابانيون في حلوقهم من جراء (المذلّة القومية) التي يتجرّعون كأسها كل يوم، وهم صامتون، فإن (الرأي العام) الياباني و(قادة الرأي) يتقبلون، عن رضا أو بدون رضا، المبدأ الأساسي في تلك الصفقة أو «القسمة الضيزى» : حيث النعمة مقابل المذلّة. ولكن هذا لن يدوم، في اعتقادنا (وقد قُدّر لنا أن نزور اليابان منذ سنوات في مهمة علمية طويلة نسبياً لنلمس ذلك ونلتمس مصادر معلوماتها عن كثب).
ولكنّ «الصفقة اليابانية» التي جرى بموجبها تنصيب اليابان عدواً دائماً للصين في شرق آسيا بالتعريف الواسع، لم يحدث نظير أميركي لها مع مصر: فقد تم استبعادها من حيز الصراع المحتمل مع إسرائيل، دون أن تجري مساعدتها على أن تتبوّأ مكانة إقليمية، وأن تحقق تقدماً اقتصادياً قد يدفع بها يوماً ما للتفكير في مناوأة إسرائيل، العدو القومي (الطبيعي) للحركة الوطنية القومية، في البلدان العربية، وأهم هذه البلدان مصر بطبيعة الحال. لذلك يمكن أن تظل مصر دائماً قوة قومية في نطاقها العربي، (تحت التصرف) تاريخياً، ولن تذهب (دون رجعة) في أي حال.
يبقى من أمر تقرير (كوينسي) ملاحظتان:
الملاحظة الأولى مستنبطة استنتاجاً، أن الوجود العسكري الأميركي في الخارج، من وجهة النظر الأميركية، يجب أن يتركّز حيث يجب له أن يوجد، أي في مواجهة روسيا والصين، يعني في كل من أوروبا -أوراسيا، من ناحية أولى، وشرق وشمال شرقي آسيا، من ناحية ثانية. في أوروبا يتحدد الأمر بالدرجة الأولى بالوجود العسكري الأميركي في ألمانيا، وتالياً في بولندا. أما في شرق آسيا فيتركز الوجود، عسكرياً، في كوريا الجنوبية، واقتصادياً في تايوان( وما أدراك ما تايوان في ميدان الصراع مع الصين..؟!!). أما في الشرق الأوسط فلا حاجة إلى مثل هذا الوجود، حيث لا موجب له بمقتضى توازنات القوى القائمة.
وهذا ينقلنا إلى الملاحظة الثانية، وتخصّ إسرائيل، حيث يردّ التقرير على الحجة المحتملة القائلة بأن وجوداً عسكرياً أميركياً دائماً يكون ضرورياً للدفاع عن إسرائيل. ويتمثل الرد في القول إن إسرائيل قد بلغت من القوة العسكرية الذاتية، بفعل الدعم الأميركي القوي المستدام، ما يؤهلها للدفاع عن نفسها، وأنها منذ نشأتها عام 1948، ربما لم تبلغ من القوة العسكرية بالذات ما بلغته الآن.
وبذلك تكتمل الحجج الداعية إلى التخفيف من ثقل الوجود العسكري الأميركي المباشر في الشرق الأوسط. فماذا نحن قائلون وفاعلون…؟